حكاية معلم الفن المجنون ذي العينين المشجرتين وطلابه الذين اختفوا فجأة

رن هاتف المركز، اندفع صوت متوتر يصيح: "أن طلاب صف كامل مع معلم الفن في مدرسة ما في المدينة قد اختفوا". لم نفهم في البداية ماذا عنى الصوت المتوتر باختفاء الطلاب، ذهبنا إلى المدرسة، استجوبنا المدير المنذهل وطلاب الصفوف الأخرى الخائفين، الكل أجمع على أنهم شاهدوا المعلم "غريب الأطوار ذا القميص المشجر والشعر الشجري والعينين المشجرتين" وطلاب الصف الثامن "ج" يدخلون الصف بداية الحصة الثانية، وأنهم لم يشاهدوا الباب يفتح أبداً، ولم يخرج أي طالب إلى المرحاض أو لإحضار غرض، مثل طباشير أو أوراق ... الخ، كما يحدث عادةً.
المدير قال لنا: إنه لم يرتح لمعلم هذا الصف ومربيه منذ تعين في المدرسة منذ عامين، فهو لا يتكلم مع المدرسين، يعتكف معظم استراحاته في المكتبة، يغلق الباب على نفسه، وأنه تسمع في المكتبة أصوات موسيقى غريبة يتخللها أصوات طيور وحيوانات وبشر يبكون أو يرقصون أو يصلون، العلاقة بين طلاب هذا الصف المختفي وبين هذا المعلم ذي القميص المشجر والعينين المشجرتين والعينين المشجرتين والشعر الشجري، كانت غريبة، منذ جاء هذا المعلم إلى المدرسة، منذ الحصة الأولى تقريباً، أصاب الطلاب تغيرٌ مفاجئٌ، صاروا أميل إلى الصمت، يمشون على الأرض أثناء الدخول إلى المدرسة والخروج منها، وكأنهم يستعدون لطيرانٍ قادمٍ بعد قليل، ينظرون كثيراً إلى السماء، لم يعودوا يلعبون ويركضون خلف بعضهم البعض، وقت الاستراحة يمضونها داخل بيت قديم جداً بسقفٍ دائري وأرضية مبعثرة وجدران سميكة وفوضوية. وهو قبر أو مسكن لولي مات قبل خمسمائة سنة كما يروي سكان المنطقة اسمه (سيدي نجم). مفتاح بيت "سيدي نجم" موجودٌ فقط بحوزة معلم هذا الصف الغريب. بحكم كونه معلم الفن. إفادة آذن المدرسة قالت إنه سمع طالبين من هذا الصف يهمسان لبعضهما البعض بهذه الجمل:
الأول للثاني: أنا اخترت أن أكون طائراً متوحشاً.
الثاني للأول: أنا اخترت أن أكون حصاناً برياً لا يفعل شيئاً سوى الركض، ولا يصلح ظهره لركوب أحد سوى الريح.
الأول للثاني: اخفض صوتك، فلو عرف الناس بما ننوي فعله لأخفقت خططنا وبقينا بشراً عاديين نساق كالشياه في محفل الطاعة الأبدية.
الثاني للأول: هل تدري ماذا يعني أن تكون حصاناً برياً لا يفعل شيئاً سوى الركض، وظهره لا يصلح لركوب أحد سوى الريح؟ ذلك يعني أنني سأتذوق طعم بدائية الريح، وهي تذوب في منخري، وأنني سوف اختلط في الريح لدرجة أنني سأعجز عن معرفة نفسي: هل أنا حصان أم ريح؟
ذلك يعني أني لن أخاف حين يقول لنا المعلم غداً امتحان فاستعدوا ... وإلا. ذلك يعني أني لن أرضخ لتهديدات مدير المدرسة لي حين أقص شعري وفق رغبتي، وحين أحضر بلباس اختاره أنا لا قوانين المدرسة، وحين أحتج على ضرب معلم الرياضيات لزميل لي، لأنه يبتسم باستمرار في الحصة.
الأول للثاني: يا الهي! ماذا فعل بنا هذا المعلم المجنون؟
وهل تعرف ماذا يعني أن تصبح طائراً متوحشاً ... يعني أنني لن أقف في الطابور الصباحي مستمعاً للنشيد الوطني الذي مللته ومتثائباً مع مئات المتثائبين من زملائي، وخاضعاً لأوامر الانحناء والارتفاع ... يعني أنني سأمتلك نظرة أخرى للأشياء غير نظرة النملة الضيقة.
الثاني للأول: يا إلهي! ماذا فعل بنا هذا المدرس المجنون؟

إفادة معلم الرياضة


بينما كنت في الملعب أعلم طلاب الخامس"ب" فن الانحناء أمام الحواجز، مر بي طلاب الصف المختفي صامتين ومعلمهم الغريب، واندسوا كلهم في عتمة "سيدي نجم"، أغلقوا الباب خلفهم بإحكام، وساد صمت غير مفهوم.

أفادة الطالب أيمن في الصف الخامس"ب"

أقسم أني رأيت ما يشبه طرف أجنحة فضية لامعة منغرسة بخاصرة أحد الطلاب.

إفادة الحاجة "أم أحمد" جارة المدرسة


شاهدت بأم عيني من خلال شرفتي المطلة على الصف المختفي طلاب الصف وهم يرسمون بأيديهم أشكالاً غريبة في الهواء، معلمهم ذي العينين المشجرتين والقميص المشجر والشعر المشجر كان يرسم هو الآخر، عيناه بدتا جاحظتان، انفعالات مخيفة تسيل في وجهه، فجأة رأيتهم وكأنهم يعانقون أو يلبسون الرسومات التي رسموها، ويختفون من أمام ناظري، اعتقدت في البداية أني أتخيل أشياء غريبة بفعل عينيَّ الكليلتين.

المحققون حائرون


جمع رئيس قسم التحقيقات، في مركز شرطة المدينة إفادات المدير والطلاب والآذن ومدرس الرياضة والحاجة أم أحمد، والمعلمين، وضعها أمام طاقم المحققين، ساد فضاء المكتب إحساس بعجز كبير عن كشف سر الاختفاء، ووقع الرئيس بحرج كبير أمام أسئلة الصحافيين الذين تدفقوا على المركز، زاد من إرباك الموقف وفوضاه صراخ أهالي الطلبة وتجمعهم العنيف على بوابات المركز، ومطالبتهم الباكية والمهددة بكشف سر اختفاء أبنائهم.

الاحتلال ينفي اعتقال الطلاب


نفى مصدر مسؤول في قوات الاحتلال الإسرائيلي، مسؤوليته عن اعتقال طلاب الصف الثامن "ج" في مدرسة في مدينة رام الله، وأفاد المصدر أنه لم يبلغ في المنطقة عن حوادث تبرر احتجاز طلاب مدرسة.

خبر الاختفاء في صحيفة محلية


صف مدرسي كامل اختفي مع معلم الفن، في إحدى مدارس رام الله، مصادر في الشرطة أفادت أن ظروف الاختفاء غامضة جداً. مصدر مسؤول في وزارة التربية والتعليم قال إنه ليس هناك دليل على جريمة جنائية أو سياسية، وأن التحقيقات ما زالت مستمرة،

تقرير مفتش الفن عن مدرس الفن المختفي


لم يعجبني شكله، فشعره طويل وفوضوي، طريقته في تعليم الرسم مريبة، فهو لا يؤمن بالألوان، خامته الأساسية الهواء، وفرشاته يده وذهنه، المدرس لم ينبس بكلمة، أصابع يده وإيماءات عينيه هي طريقته في التعليم، أوصي بالانتباه له ومتابعة سلوكه، فقد يكون خطيراً جداً على أذهان الطلاب.

تقرير مدير المدرسة عن مدرس الفن


لا أعرف بالضبط ما طبيعة هذا المعلم، أحياناً أحس أنه بسيط جداً، وأحياناً أخاف من أفكاره وسلوكه، فهو لا يختلط بالمعلمين ولا يصافحهم. اقترح عليَّ إلغاء النشيد الوطني، لأن استمرار سماعه يسبب للطلاب الملل والإحباط واللامعنى، اقترح استبداله بأغانٍ لفيروز، مثلاً أو عبد الوهاب، ضحكت عليه في سري ... إنه مجنون حقاً.
ومرة اقترح إلغاء الزي الرسمي واستبداله بملابس يختارها الطالب حسب ذوقه وتفكيره وأحلامه، أوصي بإرسال لجنة لفحص ذهن هذا المعلم، فقد يكون خطيراً على الأجيال.

بوح ليلي حزين لأم طالب مفقود


في الآونة الأخيرة، كان يكثر النظر إلى النجوم، طاقته الجسدية مؤخراً ضعفت، بينما طاقته الذهنية الداخلية، تصاعدت، بشكل خطير، كان يحشر نفسه في غرفته، أراه من ثقب الباب يرسم بيده في الفراغ، أشكالاً غريبة، مرة يرسم ما يشبه الحصان، وأخرى شمساً، وثالثة بيوتاً عالية تشبه الجبال وجزراً نائية وعصافير مختلفة الأشكال والألوان، وشجراً غريباً، ضخم الجذوع. كان يقول لي باستمرار أن حرية يده وهو يرسم أو تحفر في الهواء تقوده إلى شعور ممتع جداً، وأن الاستمرار في الرسم مع التركيز ونفي الوجود المرئي، يؤدي حتماً إلى تجسد الشكل المرسوم ووجوده الحقيقي. وقال لي مرة أن معلم الفن ذا العينين المشجرتين قال له: إنه بينما كان يرسم حصاناً في الفراغ الليلي فوق تلة من تلال أريحا العالية الجرداء، في الوقت الذي كان فيه العالم نائماً وساكتاً، صهل حصان فجأة بين يديه، فركبه ومضى عائداً إلى رام الله القريبة.

ماذا قالت روح سيدي نجم؟؟


كانوا يأتون لي خفافاً، ثملين بالصمت، معلمهم كائن مجنون يتعاطى التحريض على التحول والذوبان في الأشياءسبيلاً للتعلم والحب والحياة، فهو يقول لهم بصوت يشبه الحلم: التحولات سر هذا الكون، الناس غافلون بانشغالاتهم العادية عما يحيط بهم من صخور وشجر ومطر وغيوم، فلو حدّقنا في ساق ضخم لشجرة، لسمعنا أصوات تنفس، أو بكاء، أو نداء، أو صلاة، أو رقص، ... مشكلة الناس في عالمنا هذا، أنهم لا يعرفون معنى كلمة تحديق، فلو عرفوا طعمها لتغيرت حياتهم، لاكتشفوا كم هم واسعون وجميلون وأقوياء، التحديق يعطيك فرصة استرجاع معنى قواك غير المرئية، التحديق ينقي الهواء الذي تتنفسه، ويصور لك الشجرة أمّاً لك، والغيمة جدة أو جارة. الطلاب، والكلام ما زال لسيدي نجم، كانوا ينفذون أقوال معلمهم بفرح هادئ، كنت أراهم يحدقون في جدراني المشققة القاسية، أو عشبة خضراء تطل بإصرار من شقوق سقفي الدائري الصلب، كانت الحصة كاملة يمضونها محدقين دون أي حركة، أصوات الطلاب في الخارج (في ملعب المدرسة) لم تكن تشكل لهم إزعاجاً، فقد دربهم هذا المعلم ذو العينين المشجرتين على قتال الخارج، أو تجميده، أو اعتقاله في قبضة انفصالهم المركَّز، أحببت هذا المعلم، سحرني هؤلاء الطلاب، فلأول مرة يزورني أشخاص مختلفون، يحترمون هيبة فضائي، يعرفون قيمتي، وتاريخي، لقد اعتدت على سطحيين ومزعجين يعبثون في أحشائي، ينتزعون عشبي بفظاظة، يكشطون جدراني بأرجلهم الغبية يسرقون حجارة أرضي، يشتمون تاريخ سقفي بقفزاتهم البهلوانية.

رسائل المختفين القصيرة


وأخيراً أفاد مركز شرطة المدينة في مؤتمر صحافي أن المحققين في اختفاء الطلبة الغامض قد عثروا على قصاصات رسائل قصيرة لطلاب الثامن"ج"، وذلك في شقوق جدران "سيدي نجم"، كما عثر بجانب الكلمات على أشكال مرسومة للأشياء والأدوات التي اختفوا من خلالها.

المعلم: لست مختفياً أنا بينكم ألا ترونني؟


أحمد: أنا سمكة في بحر قريب، لن أعود إلى يابستكم أبداً. من الماء أتعلم الاتساع.
راضي: الله ما أجمل الريح وهي تلطم صهيلي. من الريح أتعلم فن التحرش بأوصالي الضائعة.
صالح: يا بُلهاءّ! أتلتهمون ثمري وتدعون اختفائي؟! أتعلم الآن من الثمر كيف أستلُّ من موتي حياتي.
خليل: صحيح أن موتي قريب، لكني احتفظ بسر اللهب وعذوبة الزهرة، أتعلم من الفراشات التسامح ونبل المغادرة.
شاكر: تعالوا إلى موجي؛ فأنا صديق الصخور والبط والطيور والأطفال والقوارب، أتعلم من البحر التاريخ الحقيقي للأشياء.
محمد: أنا ملجأ الرسل، وأنتم ملجأ الضجر والفراغ، أتعلم من الكهوف كيف أخبئ الهاربين من الطغاة.
يسار: لحمي أبيض، روحي زرقاء، وأنتم فحم جائع، أتعلم من البياض متعة الفراغ حين يرفض بيع نفسه.
مالك: أنا الفكرة وأنتم التردد، أتعلم من الذهن الربط بين سقوط مملكة وبين عجز مليكها الجنسي.
أسامة: خطوتي واسعة يا عبيد الجغرافيا، أتعلم من الطيران طاقة التمدد، وعمق النظر.
هاشم: بلا ماض وبلا مستقبل أتنفس أنا الأبدية، أنا الزمن، أتعلم من الأبدية تمدد الطاقة.
يوسف: غيمة أنا معلقة فوق رقابكم، أراقب صحراءكم وابتسم، أتعلم من الغيوم الكبرياء.


0 التعليقات:

إرسال تعليق